top of page

نهضة الفن الحديث في الخليج



بعض الملاحظات عن “معرض الفن الخليجي المعاصر” في بون وباريس

حمَّادي الهاشمي

هذه المقالة جزءٌ من مقالة أخرى حول بعض فناني الإمارات. وهنا سأتطرق إلى مشاركة الفنانين الآخرين من بلدان الخليج العربي في معرض بون- ألمانيا، ومعرض باريس في معهد العالم العربي، وهو مكان مهم جدًّا على صعيد تقديم الثقافة العربية إلى كل العالم الغربي. من القطر الشقيق عُمان شارك الفنانان أنور سونيا وحسن مير. أنور سونيا: في عمل الفيديو (“الحصار”) يستهلُّنا سونيا بمشهد طير النورس وهو في حريته وخفَّته في السَّماء، يمتزج مع صوت النوارس نواح ونداء المغني الهندي. كذلك تختلط الصور مع الأرضية في الأسفل، ناقلةً مصير الأسماك. وفي وسط شبكة الصيد يبدو كأن هناك إنسانًا أو كائنًا ما موضوعًا داخل كيس بلاستيكي أسود، ممَّا يُستخدم اعتياديًّا لرمي الأوساخ. ومع تحرك الأسماك المحتجزة في الشبكة والجسد الذي يتحرَّك داخل الكيس البلاستيكي ولا نعرف ما هو بالضَّبط، تتداخل معه الموسيقى المنذرة بالفناء. وتكون الخاتمة: الأسماك تموت على الشَّاطئ والنوارس تأكل البقايا، مثل حكمة البوذيين، بترك أجساد رجال الدِّين لتأكلها الصقور، فتتحول الأجساد في الطيور إلى كيانات محمولة في السَّماء، أو بالأحرى جزء منها. وهذا العمل من “الواقعية الجديدة nouveau realisme” من الممكن تصنيفه رغم صوفيَّته وحس التعذيب البوذي الذي أمسك بعمق الرؤية. تأكد ذلك حين تحدث الفنان بأن هذا العمل كلفه الكثير من الزمان والجهد، مع صعوبات في إقناع صيادي الأسماء بالسماح له بالتصوير، الذي استغرق ثلاثة أشهر، فواقعية العمل ليست فقط في الجهد المبذول وإنما في المشاهد التي تحاول أن تنبهنا إلى أعماق واقع هو في الحقيقة واقع معاش، لكنه في الداخل، لذلك جاء العمل غامضًا في واقعيته، ترااجيديًّا ومحزنًا أيضًا. أمَّا العمل الثاني فيدور حول عادة قراءة الفنجان المعروفة، وما تحمله من جوانب استكشافية سحرية وغامضة. تُصاحب ذلك موسيقى ذات طابع شرقي بتأثيرات هندية. وفي بداية المشهد يظهر الفنجان الفارغ إلا من بقايا القهوة، ثم اسم الشخص (فاطمة) مكتوبًا بالعربية، فهنا بعض التوجيه المعني بشخص معين. ويكون المشهد متبادلاً بين وجه المرأة والفنجان ويد قارئ الفنجان، مع ذلك فالصور غير مختلطة أو مركبة بالكمبيوتر، وإنما واضحة المعالم. وفي الأخير عقب الفنان على فيلمه رغم قراءة الكفِّ والتبشير بالحياة؛ فالمرأة فاطمة ماتت بمرض السرطان بعد ذلك. إذن هناك في الواقع قسوة لا تحد ينقلها الفنان في هذه الثنائية التي وضع مفهومها فرويد: إيروس (Eros)/أو رغبة الحياة، وتناتوس (Thanatos)/دافع الموت، وهما المسيطران على العمل، ويدفعان إلى التفكير بجدوى هذه الحياة، ولماذا كل هذا الصخب الذي لا يُوقِف النهاية المرتقبة التي لا بد منها؟. أنور سونيا فنان ذو فكر شرقي آسيوي، وصاحب مكنة تكنيكية، وحسٍّ جماليٍّ معقَّد، لا يستطيع أن يطرحه إلا بهذه الصورة. ويتركنا ذلك لتأويلاتنا الشخصية، أمَّا إرشاداته فتعمِّق الطريق أمامنا. عالم حسن مير: قدَّم هذا الفنان ثلاثة أعمل فيديو: “الغراب”، “الطريق الأخير”، وثالثًا “الغموض”. في العمل البروميثيوسي “الطريق الأخير” هناك شخص يحمل حِمْلاً ثقيلاً على ظهره، ويمشي على خطٍّ ضوئيٍّ، وهناك انشغالٌ في التكنيك لإنجاز صور هذا الفيلم المركَّز. ويحاول الشخص مثقلُ الحِمْل الحفاظ على توازنه في المشي على نفس الخطِّ الضوئي؛ الذي كأنه: قَدَر. أمَّا فيلم “غموض” فيبدأ بسمكة زينة موضوعة في إناء شفَّاف، ويظهر شخص جالس على طاولة بملابس بيضاء، ينضم إليه آخر بملابس سوداء، ولكننا نكتشف أنَّ الشخصين هما الفنان نفسه، والشخصين يجلسان على ساحل البحر في عزِّ النَّهار، والمَشاهد تمضي ما بين الشخصين، حيث يحاول الشخص ذو الملابس السوداء أكل الفحم، أمَّا الشخص بالأبيض فيحاول أكل سمكة الزينة، ونراه يُغيِّر رأيه في طريقة بدئ ذلك. وفي الأخير يُعيد السمكة إلى حوض الماء الصغير. وفي عمل “الغراب” يظهر شخص وهو يُمسِّد ظهر غرابٍ ما، وتبدأ نفس المعالجة بظهور شخصين، هما الفنان نفسه مع الموسيقى ذات الحسِّ الدِّيني تتردد في بعض أجزائها موسيقى هندية تنتهي بصوت الغراب. وفي آخر مشهد درامي للفنان نراه مدفونًا تحت الأرض لا يظهر إلا رأسه، مربوطًا بقدره الذي لا يستطيع الفكاك منه، لكنه يبدو غير مبالٍ، فليس هناك من مسحة ألم أو حزن. في أعمال الفنان حسن مير بساطةٌ في طرح الفكرة لوضوحها في عقل وخيال الفنان، مع ذلك تتميز الصورة بالتعقيد الذي اشتغل عليه في المونتاج، كما قال لي ذلك بنفسه. وهناك مع الاتجاه السحري والحلمي جزء من الأوامر السريالية يُذكرنا بـ بونويل الإسباني، مع تأكيد على واقعية نفسية وذهنية وبحث عن الذات استطعت أن أكتشفه حين سافرت إلى عُمان والتقيتُ بالفنان في وطنه، فأصبحت الصورة واضحة لديَّ، وقلتُ له: “كأنك قد تنظَّفت بالبحر”؛ فهذه الأعمال لا تطرح نرجسية، كما قد يبدو للمشاهِد، وإنما بحثًا وتقصِّيًا للذات ضروريين، مع تمكن في السيطرة على الضوء والمونتاج. وفي هذه الواقعية الفانتازية يطرح الفنان تساؤلاته عن الحياة وغموضها وتعقد الكيان الداخلي للإنسان. كذلك فهو يحاول دراسة نفسه ووضعه الروحي والديني. وقد توفق حتى في استخدام الموسيقى المصاحبة، إذ لم تطغَ على المشهد، بل كانت مكمِّلةً له وفعَّالة. وفي سيطرة الفنان على التكوين الإنشائي نستطيع استشفاف خبرة الفنان التشكليلية باللوحة الكلاسيكية ومنطوقها وأبعادها الجمالية. وفي النظر إلى هذه الأعمال ثانيةً وثالثةً نصل إلى خلاصة مفادها أن هذا الفنان لديه القابلية الكاملة لإنجاز عمل سينمائي طويل وشائق في محتواه الجمالي والمفهومي. كانت طريقة عرض أعماله في متحف بون أفضل من طريقة العرض الباريسية. وجدان المنَّاعي: ومن فناني الخليج المشاركين من البحرين أعمل فوتوغرافية جيدة جدا للفنانة وجدان المناعي التي تتمثَّل أسلوبَ الواقعية الجديدة (Nouver Realisme)، وكذلك فن الجسد (Body Art). ويبدو في هذه الصور إعجابٌ وتملُّكٌ حول الشَّعر، الذي هو جزء من الجسد، ويتمثل هنا بشعر الفنانة نفسها، مضاف إليه شعر آخر مستعار وكثيف. وفي دراميات العرض تطرح هذه الصور الفوتوغرافية مواجهةً مع اللاشعور حول مفاهيم كثيرة: كالشرف والكرامة، والعادات السائدة التي تتحكم بحرية المرأة.أحجام الصور كبيرة، وكلها يُمثِّل الفنانة نفسها، وفي هذا قوة مواجهة وتحدٍّ، كما أنها تُعبِّر عن شعور بالذَّات قوي جدًّا. فيصل السَّمرة: فنان سعودي يعيش في البحرين عرض أعمالاً كبيرة من الورق ومواد مختلطة. في الأعمال الورقية الكبيرة الثلاثة تشابه في الطول وتقارب في الألوان، وكأنها أرض أو جلد بشري قد تقرَّن بفعل حرارة الشمس. توصل الفنان إلى ذلك بمعالجة الورق بشكل خاص، مع استخدام ألوان أرضية تذكر بالصحراء، وفي إشارته الصغيرة عن أسماك الحوت أو الحياة المائية يُمَثِّلُ مباشرة فن البيئة (Envi ronment art) تمثيلاً حسنًا مع غموض وتعقيد في تقديم فكرته، التي تمثِّل في أجزائها الثلاثة أماكن من الأرض عاش عليها الفنان، وألهبتها الشمس بحرارتها الشديدة. أما العملان الآخران للفنان فهما تكوينات فنية من قماش ومعدن بأطوالها السامقة تقف كشواهد على الطبيعة والتراث الشعبي الذي يكاد يكون محاصرًا، أو هو بقايا آثار. وهذا البعد الدرامي في رؤية الفنان وفلسفته ينبهنا إلى ما يحصل في الطبيعة والثقافة المحلية التي تكاد تندرس، ويحاصرها المعدن والبناء الشاهق والكمبيوتر. إن تكامل إحساس الفنان الشكلي والفكري والنقدي يقودنا إلى التفكير بواقعية اجتماعية أجاد التعبير عنها مع بعد صوفي يحمل مكوناته في اللاشعور، فالتكامل اللَّوني والتكامل الإنشائي أخَّاذان إلى أبعد الحدود. عيش الفنان فيصل في أوروبا، وخصوصًا باريس، أثر على نمط تعامله مع العمل الفني، ومع استخدام المواد. عالم يوسف أحمد: من الفنانين الخليجيين أيضًا يوسف أحمد الذي جاء من قطر، عرض أربعة أعمال كبيرة تحمل عنوان المعرض نفسه “لغة الصحراء”. الأعمال كلها من الكولاج، أي المواد الملصقة، والتي اختارها بعناية مع المحافظة على مشابهة ألوان الصحراء. الأعمال أشبه بعرض تجريدي حول الإحساس بالصحراء وبساطتها، لذلك فالأعمال لا تحمل أي تعقد تكنيكي في سطحها التشكيلي يوقف وصولها إلى المشاهد. لكن عمومًا تعامل الفنان مع موضوعه بإحساس تأمليٍّ يحمل في أبعاده كوامن الدراما التي تمتلكها الصحراء، وكنت أتساءل وأنا أشاهد هذه الأعمال بمساحاتها الكبيرة: ماذا سيحدث لو أن الفنان شغلها باللَّون بدل أن يستخدم الورق في أداء مضامينه؟. رغم ذلك هي في الأخير، أي طريقته الكولاجية، تبعده عن فناني المساحات اللونية (Fields colors)، وتمنحه خصوصية منتظمة مع نمط الحياة الهادئ الذي يعيشه الإنسان في هذه البقعة من جغرافية الأرض. ويبقى القول إن ما عرضته الأعمال من بعد جمالي يشكل الفاعل الأساس في تطوير الأساليب الفنية الحديثة المرتكزة على التأمل والتساؤل. والأعمال بجملتها ساحرة مهدِّئة للعين، وهذا بعض جماليتها ووضوحها في مخاطبة الجمهور الأوروبي الذي تقبلها بسهولة كاملة. كل الذي قدمه معرض باريس مع كل التناقضات التي حدثت للمعرض والفنانين أن هناك حقيقة جميلة واحدة هي: إن معرض العالم العربي يجيء من شهرة المكان الذي يُعَدُّ في المرتبة الثانية بعد مركز بومبيدو للفنون. وهذا المعرض خطوة أخرى لهذا الفن الناهض المحتاج إلى جمهور ليُسنده، وأُوجِّه الشكر الجزيل إلى كارين لما قامت به من طرح وتعامل حميمي مع كل فنان وكل عمل. كذلك الشكر الجزيل للأستاذ ديتر (Prof. dr. dieter ronte) على مشاركته في تنظيم الأعمال المختارة وإبرازها في أفضل وضع جمالي ممكن. إن الفن في الخليج يُبشر بإطلالة مرحلة متطورة ومستقلة ذات طابع شخصي، ومحلي أصيل. ولكن لكبر مساحة المعرض تتعذر الكتابة عن كل الفنانين في مقالة واحدة يُحدِّدها الذوق الشخصي، الذي أعتذر عنه إن كان لا يصل إلى شفافية وعمق أعمال الفنانين الآخرين. * فنان عراقي يعيش في بلجيكا



Notes:

Tags:

Comments


bottom of page