top of page

حسن مير وشغف الحكاية ما بين التراثي والحداثي: تجربة الدائرة بين المركز والمحيط .. وكثافة الأسئلة




عُمان ـ القدس العربي ـ من أنور بدر: حسن مير فنان عُماني ولد في مسقط عام 1972، درس فنون الميديا والرسم في الولايات المتحدة، لكنه ظّل شغوفاً بأسئلة الطفولة والبحث عن رموز ودلالات تشكلت في الذاكرة الأولي التي تتماهي فيها الحدود بين ما هو واقعي وما هو أسطوري، بين ما هو مادي وما هو روحي، ليعبّر عن ذاته في تجارب تذهب إلي أمداء المعاصرة اللامحدودة، معاصرة لا تنفصل عن ذاكرته وهمومه وأسئلته، لكنها تعيد صياغة كل ذلك في قوالب جمالية وفنية حديثة، تبتعد عن بدايات الرسم باتجاه الفنون التركيبية وعروض الفيديو، ويبرر ذلك أن اللوحة ذات البعدين لا تساعده كثيراً في التعبير عن الحكاية التي تشكل هاجسه الفني. حول تجربته الشخصية وتجربة الدائرة كان للقدس العربي هذا الحوار الممتع مع فنان أصيل وريادي بآن معاً، أصيل بأفكاره وريادي بأدواته وما يسعي للوصول إليه:

قبل الدخول في أجواء اهتماماتك الراهنة، أرجو أن نلم بشيء عن البدايات الفنية لديك؟ بداياتي كانت في منتصف الثمانينات، بعض المحاولات ذات طابع تجريبي، هاجس البحث عن التقنيات وأدوات التعبير، لذلك كانت معظم الأعمال التي أنتجتها في تلك الفترة لا تحمل قضية أو فكرة، وهذه المسألة شكلت الحد الفاصل بين بداياتي وبين المرحلة الجديدة التي وصلت إلي الفن المفاهيمي الجديد. هذه النقلة لم تكن ميكانيكية قط، ولا جاءت كقفزة عشوائية، بل كانت حصيلة قراءات كثيرة في الأدب والفن، وتعبيرا عن نضج التجربة في مرحلة ما بعد الدراسة تحديداً. كيف تمت هذه النقلة من الرسم الكلاسيكي إلي عروض الفيديو؟ أنا حصلت علي بكالوريوس في فنون الميديا من جامعة سافانا للفنون والتصميم، وتابعت ماجستير في الرسم عام 2000، وبالتالي تعرفت علي تلك الأدوات الحديثة في الرسم أثناء دراستي، طبعاً قبل ذلك لم أكن أعرف شيئاً عنها، لأنها بالأصل لم تكن قد بدأت بالانتشار عالمياً، فهي ما تزال اتجاهات حديثة حتي في الغرب. تعود بدايات هذه الموجة في أوروبا للفنان مارسيل غوشان بعد الحرب العالمية الأولي، لكنها سرعان ما توقفت، ليعاد إحياؤها في الستينات من قبل بعض الفنانين المهاجرين في الولايات المتحدة، كانوا مدفوعين لتقديم فن شعبي البوب آرت في كل مجالات الرسم والموسيقا، لكن الأمور لم تكن واضحة بعد. في بداية التسعينات حاول بعض الفنانين الذين كانوا يشتغلون علي الفيديو آرت تنقيح هذه التجربة، وجعلها مذهباً من مذاهب الفن الحديث، لأنها كانت ترتبط بشكل وثيق بالأدوات والتكنولوجيا. هذه العلاقة مع الأدوات والتكنولوجيا منحت هذا الاتجاه الفني قدرة علي التغيير والانتشار بآن معاً. طبعاً أنا تعرفت علي فن الفيديو في الجامعة ـ كما قلت ـ لكنني لم أتشجع علي الاشتغال بهذه الطريقة قبل أن أقرأ تجربة الفنان بيل فيولا هذه التجربة الغنية خاصة في مستوي الاهتمام بالفلسفة الشرقية، كان فيولا يقرأ رباعيات عمر الخيام ويقرأ جلال الدين الرومي، وقد أثار استغرابي: أمعقول شخص يشتغل بهذه الأدوات والأجهزة الحديثة يقرأ عن جلال الدين الرومي وعمر الخيام؟ هنا اكتشفت أن المسألة ليست مسألة أجهزة حديثة وتقنيات، بل هي علاقة بالإحساس وأدوات التعبير. المسألة الثانية أنني في الفترة الأخيرة من دراستي بدأت أركز علي موضوع القصة في اللوحة، حتي لو كانت لوحة تجريدية، كنت أسعي للتعبير من خلالها عن قصة. بعد تخرجي عام 2000، أحسست بمحدودية القدرة علي توسيع فكرة القصة أمام العمل ذي البعدين، مما اضطرني للاتجاه نحو الفن التركيبي وفن الفيديو آرت كي أستطيع إكمال الحكاية. لكنك لم تكتف بحكايتك بل ساهمت بتأسيس مشروع الدائرة الفن الريادي في هذا المجال؟ بعد عودتي إلي عُمان أقمت ورشة عام 2001 ضمت مجموعة من الفنانين وكتاب القصة والشعراء والموسيقيين باسم الدائرة قدمت أول معرض لها في النادي الثقافي، وقد نجح المشروع بشكل جيد، وتفاعل الناس كثيراً مع فكرة المعرض وعروض الفيديو، وعندما سألت الناس عن سبب هذا التفاعل، أجابوا أنهم معتادون علي التعامل مع هذه الأجهزة، لا يوجد شخص لا يملك جهاز تلفزيون، وأغلب الفضائيات العربية كالجزيرة والعربية وسواهما تعرض كثيراً من الكافشن التي تتضمن قضايا وأفكارا تطرح. وهذه مرتبطة بفن الفيديو. في هذه العروض كان الجمهور أمام قصة وحركة، وهذه الأشياء كانت متابعتها أسهل بالنسبة له من الأعمال التجريدية، التي يصعب فهمها، لذلك لم نواجه مشكلة مع الجمهور، وبالنسبة لي حاولت أن أركز في هذا المعرض علي موضوع القصة. في عام 2002 أخذنا مشروع الدائرة إلي مهرجان الدوحة الثقافي، كما عرضنا بعد عامين في غاليري البنك الدولي في واشنطن دي سي، ثم انتقل المعرض إلي متحف سان بولتين في النمسا، وبعدها في متحف بون في ألمانيا، وسنعرض قريبا في المكسيك. اللوحة ذات البعدين عمل فني يُباع ويُقتني، بينما عروض الفيديو مكلفة ولا تعطي ذات المردودية المادية؟ هذا صحيح، من الناحية المادية إذ يبدو المشروع خاسرا، لكنني من الناحية الفنية أجد نفسي منحازا للتعبير عن حكايتي كما قلت، الفن المفاهيمي يعطيني مساحة أوسع للشغل علي الأفكار. فأنا في الطريق الأخير وهو عمل تركيبي باستخدام الفيديو 2005، أشتغل علي التراث الديني من خلال مقاربة للظرف الإنساني الذي نحياه جميعاً كبشر: أحمل خطاياي علي جسدي المنهك عارياً، متجهاً إلي بقائي الأزلي. انتظر نداء روحي وهو يقود جسدي، وأسير باحثاً عن مرقدي الأخير. دلفت ووضعت قدميّ الحافيتين علي الصراط، تأرجح جسدي بين الجنة والجحيم… غريب وحيد وسط سديم، لا أحد يدركني، لا أحد يراني، يتناثر حزني وهلعي بين الأرض والسماء… الأرض التي جئت إليها وحيداً، أبعث منها إلي السماء عارياً محملاً بالأثقال إلي أزلي وأبديتي. هذه الموضوعات تأخذني في غوايتها، حتي أنني لست قادراً علي العودة إلي المرحلة الزرقاء السابقة، التي اشتغلت عليها. أحس أن اللوحة أصبحت جد بعيدة وغريبة عني. لكن هذه التقنية الجديدة متغربة بدورها إلي هذا الحد أو ذاك، فإلي أي درجة يمكن توظيفها ضمن شروطنا البيئية والاجتماعية؟ التقنية سهلة كثيراً، لكن المشكلة حقاً في التوظيف، وهذه المشكلة لم ينتبه لها بعض فنانينا، فتوظيف التكنولوجيا أو التقنية الحديثة يجب أن يتم عبر كثير من الدراسة، عندما يختار الفنان مواضيع متعلقة بشخصه هو، برؤيته للعالم، بعض القضايا المعاصرة التي نعيشها الآن كمجتمعات عربية أو كأفراد،أعتقد أن ذلك يساعده في النجاح، وعموماً هذا يعتمد علي موهبة الفنان من جهة، ووعيه من جهة ثانية. كيف تقرأ المشهد التشكيلي العُماني؟ يوجد في عُمان عدد من الفنانين ذوي الحضور الجيد، ولدينا بعض الأجانب المقيمين في عُمان يتمتعون بتجربة فنية مهمة، لكننا عموماً يجب أن ننظر للمسألة من ناحية الكيف وليس من خلال الكم، فإحساسي أن تواصل الفنانين العُمانيين مع المحترفات التشكيلية العربية والعالمية ما زال دون المطلوب. لدينا الآن مجموعة من الفنانين العُمانيين يتابعون دراسات تخصصية في الخارج، كذلك نظام التربية في الجامعة تغير الآن وأصبح التركيز أكثر علي الطلبة الموهوبين كي يحتلوا المقاعد الدراسية في التربية الفنية، كذلك طرأ تغيير في المناهج الدراسية. كل هذا يرشح أن تكون السنوات القادمة حافلة بحضور تشكيلي أفضل في عُمان. ما هي مشاريعكم القادمة؟ عندي بعض الارتباطات الخارجية ضمن نفس المنظومة، ولدينا في عُمان مشروع في الشهر الأول من العام القادم اسمه الشارع والمدينة سوف نعرض في الهواء الطلق، لأن تجارب الدائرة السابقة كانت جيدة، لكنها لم تصل للناس بالشكل المطلوب، وجاءتنا ملاحظة بعض الأصدقاء، وعن طريق الرسائل التي وصلتنا تقترح إقامة المعرض في الهواء الطلق، وعاينا فعلاً بعض المواقع الجيدة في مسقط. بعض الأصدقاء اقترح أن يكون المعرض القادم في مطرح فهو مكان أفضل كمركز للسيّاح، وكثير من الفنانين عاينوا الموقع وتفاعلوا معه، وكلنا إحساس بأن هذا المعرض سيتابعه جمهور أكبر بكثير ممن كانوا يحضرون في قاعات المعارض السابقة.

بيان الدائرة

عالم مغلق صغير كالنقطة، سُرعان ما يتسع ويكبر ويتشكل دوائر هلاميّة خصبة، تسبح في سديم غامض. أن تخرج من دائرة الرحم الأمومي متجهاً إلي دائرة الأرض. من أخذك إلي هذا الغموض وإلي أين تتجه بك الأقدار؟ من أنت؟ لماذا أتيت وماذا تريد؟ ما أن تفلح في الخروج من دائرة حتي تصل إلي دائرة أخري ثم أخري، لن تفلح حتي بالجنون أن تخرج خارجها. دائرة المهد ودائرة اللحد متطابقتان في ضيقهما وفي اتساع إضاءاتهما في آن، بل وفي انتفاء ارتباط كل دائرة منهما بمصالح الإنسان ورغباته وغرائزه المدفونة. يظل انتماؤنا إلي الدائرة الأصغر الأولي هو الانتماء الأرحب والأكثر شجناً وجمالاً. نحنّ اليها حتي ونحن في رحيلنا إلي دائرة الموت. لكن فقداننا له فقداننا لجمال لا استعاضة عنه، وانتماء لدائرة أكبر تتسع لكل شيء عداه. عدا تلك الدائرة الأولي، دائرة الكون والنار والحميم. الدوائر هي أمهات الوجود، يُطلق عليها الشيخ الأكبر ابن عربي الجدول الهيولاني، ويحصرها في أربع هي الجوهر والعرض والزمان والمكان وما زاد عليها فإنه مُركب منها، من فاعل ومنفعل وإضافة ووضع وعدد وكيف… قبل ابن عربي حصرها أرسطو في عشر ثم ردها الرواقيون إلي أربع هي الكيفية والكم والإضافة والوضع. واختلف معهم شيخ الأشراف السهروردي الذي ذهب إلي أنها خمس. ونفي كون هذه المقولات إرثا أرسطيا إذ ردها إلي شخص فيثاغوري يُقال له أرفوطيس . أما الهنود فقد أدخلوا في إنشاء الدوائر ست مقولات هي: الجوهر، الكمية، الفعل، العام، الخاص، التجمع. والفيسلوف الألماني كانط أرجعها إلي أربع: الكم، الكيف، الإضافة، الحالة. ويضيف الشيخ الأكبر لاحقاً: (وجوهنا الخلق… مقبلة مصروفة إلي نقطة المحيط لأنها منها خرجنا، فلم يتمكن لنا أن نستقبل بوجوهنا إلا هي.. والأمر كري، فالضرورة يكون الوراء منا للمحيط بنا.. فالعالم بين النقطة والمحيط، فالنقطة: الأول، والمحيط: الآخر. فالحفظ الإلهي يصحبنا حيثما كنا فيصرفنا منه إليه والأمر دائرة ما لها طرف يشهد فيتوقف عنده…… ولا يزال وجه العالم أبداً إلي الاسم الأول الذي أوجده ناظراً، ولا يزال ظهر العالم إلي الاسم الآخر المحيط الذي ينتهي إليه ناظراً).




Notes:


Tags:



bottom of page